من قاعة المحكمة إلى جبهات الصراع.. انهيار العدالة يفاقم أزمات الحوثيين
من قاعة المحكمة إلى جبهات الصراع.. انهيار العدالة يفاقم أزمات الحوثيين
أدان مكتب حقوق الإنسان بأمانة العاصمة صنعاء في بيان له السبت قرار ميليشيا الحوثيين بتعيين 83 عنصراً من خريجي الدورات العقائدية قضاة متدربين، واعتبره خطوة خطيرة تمس استقلال القضاء وتحوّله إلى أداة سياسية بيد الجماعة، وحذر المكتب من أن هذه التعيينات تمثل تدخلاً ممنهجاً في السلطة القضائية، يهدد مفهوم العدالة ذاته ويقوّض مبدأ سيادة القانون الذي يُفترض أن يحكم حياة المواطنين.
مصادر قانونية في صنعاء أكدت، وفقاً لما ذكره موقع "بوابتي"، أن معظم المعينين الجدد لا يمتلكون أي مؤهلات علمية في الفقه أو القانون، وأنهم خضعوا بدلاً من ذلك لدورات فكرية داخلية ذات طابع مذهبي، تُركّز على الولاء للجماعة أكثر من الكفاءة القانونية.
هذه الخطوة تأتي في وقت تشهد فيه المؤسسات القضائية نزيفاً حاداً في الكفاءات بعد أن اضطر عشرات القضاة إلى مغادرة مناطق سيطرة الحوثيين احتجاجاً على التدخلات المتكررة في أعمالهم أو خوفاً من الاعتقال.
ويشير مراقبون حقوقيون إلى أن ما يجري في صنعاء ليس سوى تتويج لمسار بدأ منذ سنوات، حين عمدت الجماعة إلى إحكام قبضتها على مفاصل الدولة، خصوصاً المؤسسات القضائية والرقابية والإعلامية، بهدف تكييفها مع رؤيتها السياسية.
القضاء أداة للهيمنة
تؤكد تقارير المنظمات الدولية، ومنها المفوضية السامية لحقوق الإنسان، أن سيطرة المليشيات على القضاء تعد من أخطر مظاهر انهيار مؤسسات الدولة، لما يترتب عليها من انعدام العدالة، وتفشي الإفلات من العقاب، واستغلال المحاكم لتصفية الخصوم، وتذكر تلك التقارير أن جماعة الحوثيين استخدمت القضاء لإصدار أحكام إعدام بحق معارضين سياسيين وصحفيين، في محاكمات وُصفت بأنها تفتقر لأدنى معايير العدالة.
مكتب حقوق الإنسان في صنعاء شدّد على أن جميع التعديلات التي فرضتها الجماعة على قانون السلطة القضائية باطلة دستورياً، ومخالفة للمعايير الدولية التي تضمن استقلال القضاء وحياده، كما دعا الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية إلى اتخاذ موقف واضح وفعّال، يضمن حماية القضاة المهنيين، ويمنع تحويل المحاكم إلى أدوات قمع أو وسائل انتقام سياسي.
بالتوازي مع هذه التطورات، نشر "مركز المخا للدراسات الاستراتيجية" تقريراً جديداً يرصد التحديات العميقة التي تواجه جماعة الحوثيين، مؤكداً أن أزماتها لم تعد مقتصرة على الصعيد العسكري أو الاقتصادي، بل امتدت إلى البنية الداخلية والتنظيمية ذاتها، وأشار التقرير إلى أن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في مناطق سيطرة الجماعة تشهد تدهوراً غير مسبوق، مع نقص حاد في المواد الأساسية وارتفاع معدلات البطالة والفقر، ما ولّد حالة استياء شعبي متصاعدة تهدد بتآكل القاعدة الاجتماعية التي كانت تعتمد عليها الجماعة.
كما كشف التقرير توترات سياسية داخل الجماعة نفسها، خصوصاً مع بقايا حزب المؤتمر الشعبي العام الذي كان شريكاً سابقاً لها قبل مقتل الرئيس السابق علي عبد الله صالح. وأدى تهميش قيادات المؤتمر وإقصاؤهم من المناصب إلى انقسامات داخلية تُضعف تماسك الجماعة وتربك منظومتها الإدارية والعسكرية.
تراجع الدعم الإيراني
يضيف تقرير مركز المخا أن الحوثيين باتوا يواجهون تراجعاً ملاحظاً في الدعم العسكري والمالي الإيراني، في ظل تشديد العقوبات الدولية وتصنيفهم من قبل الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية منظمة إرهابية، هذا الوضع زاد من عزلتهم الخارجية، وأفقدهم القدرة على المناورة السياسية، خاصة بعد أن فقدت طهران بعض قدرتها على تمويل أذرعها الإقليمية بسبب أزماتها الاقتصادية والضغوط الغربية المتزايدة.
وتشير مصادر دبلوماسية إلى أن هذا التراجع في الدعم انعكس على الأداء العسكري للحوثيين في جبهات مأرب والحديدة وتعز، حيث تراجعت قدرتهم على التعويض اللوجستي، وأصبحت خسائرهم البشرية والميدانية أكثر تأثيراً في استقرارهم الداخلي.
وبحسب تقرير مركز المخا، فإن جماعة الحوثي اليوم تقف أمام ثلاثة خيارات رئيسية هي: مواصلة التصعيد العسكري رغم الكلفة الإنسانية الباهظة، أو الدخول في مصالحة وطنية تتطلب تنازلات سياسية مؤلمة، أو تبني استراتيجية مزدوجة تجمع بين التهدئة والمناورة للحفاظ على الحد الأدنى من السيطرة، لكنّ معظم المؤشرات الميدانية والسياسية توحي بأن الحوثيين يميلون إلى الخيار الثالث، وهو مزيج من القوة والتفاوض، يهدف إلى إطالة أمد نفوذهم بأقل قدر ممكن من التنازلات.
غير أن هذا الخيار لا يضمن الاستقرار، إذ تواجه الجماعة أزمة شرعية داخلية متفاقمة، خاصة بعد فشلها في إدارة شؤون المواطنين في مناطق سيطرتها، وازدياد الانتقادات الموجهة إليها بسبب الفساد المالي واستحواذها على المساعدات الإنسانية.
فقدان الثقة الشعبية
من الملاحظ أن الخطاب الشعبي في صنعاء وصعدة وذمار بدأ يتغيّر تدريجياً، فبينما كانت الجماعة تحظى في بداياتها بقدر من القبول بوصفها حركة مقاومة ضد التدخل الخارجي، أصبحت اليوم تواجه غضباً متنامياً بسبب تردي الأوضاع المعيشية وانعدام الخدمات، كثير من الموظفين الحكوميين لم يتقاضوا رواتبهم منذ سنوات، في حين تتضاعف أسعار الغذاء والدواء يومياً، ما يجعل حياة الناس شبه مستحيلة.
هذا التدهور يعكس فشلاً في إدارة الاقتصاد المحلي وتوزيع الموارد، ويكشف عن انقسام بين القيادة العليا والقاعدة الشعبية، في ظل هيمنة اقتصادية لقيادات محدودة تراكم الثروة على حساب الأغلبية.
ومنذ سيطرة الحوثيين على صنعاء عام 2014، واجهت اليمن تحولات جذرية في طبيعة مؤسسات الدولة، إذ استُبدلت البنية المؤسسية بقواعد الولاء والهيمنة الأيديولوجية، ومع مرور الوقت، أصبحت الجماعة أمام معضلة بنيوية: كيف تدير سلطة قائمة على القوة في بيئة تطالب بالعدالة والحقوق؟
التحليل المقارن لتجارب الجماعات المسلحة في المنطقة يُظهر أن فقدان الثقة بالمؤسسات، ولا سيما القضاء، هو أول مؤشرات الانهيار الداخلي، فحين تتآكل العدالة، ينهار الإيمان بالدولة، ويبدأ التفكك الاجتماعي والسياسي، واليمن اليوم، وفق هذا المؤشر، يقترب من نقطة حرجة في ظل غياب إصلاح جدي لمؤسسات الحكم.
يتقاطع ملف القضاء الموجَّه في صنعاء مع تراجع البنية السياسية والاقتصادية للحوثيين في رسم ملامح مرحلة حرجة من تاريخ الجماعة، فبينما تسعى لتكريس هيمنتها عبر السيطرة على القضاء والإدارة، تتآكل قدرتها على الحكم بفعل الأزمات الاقتصادية والعزلة الدولية وتراجع الحاضنة الاجتماعية.
وبين محاكم خاضعة للتوجيه ومجتمع يزداد فقراً واحتقاناً، يقف اليمنيون أمام مشهد تتقاطع فيه العدالة المفقودة مع المستقبل الغامض، وفي غياب إصلاح حقيقي ومصالحة وطنية شاملة، يبقى السؤال مفتوحاً.. هل تملك الجماعة القدرة على الإصلاح، أم إنها تندفع نحو نهايتها الحتمية؟










